شمائل النبيّ صَلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ (1)
الشّمائل الخُلُقِيّّة..
بقلم : عبد الحليم توميات
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فإنّ معرفة شمائل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بنوعيها الخُلُقيّة والخَلقيّة لها فوائد جمّة عظيمة، وذلك من وجوه:
الوجه الأوّل: أنّها من تمام معرفة رسول الله صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، وحقّ على كلّ مسلم أن يعرف نبيّه، لأنّ الإيمان بالشّيء على قدر المعرفة به، فكثير من النّاس يؤمن بوجود الشّيء، ولكنّ اليقين لا يسكن إلاّ قلب من رآه وعاينه، وتلك هي مراتب العلم: اليقين، وحقّ اليقين، وعين اليقين.
لذلك كان أكثر النّاس يقينا أعرفهم به صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، وقد أشار الله تعالى إلى هذا عندما اختار من كلّ قوم رجلا منهم يعرفون حسبه ونسبه وسيرته وشمائله، فقال:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}، وقال:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحا}، وقال:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً}، وقال:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِه}، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
والمسلم إذا درس شمائله صلّى الله عليه وسلّم يجد نفسه وكأنّه عاينه وعايشه فيزداد يقينه بصدق وكمال وجلال نبيّه صلّى الله عليه وسلّم.
الوجه الثّاني: أنّ معرفة الشّمائل المحمّديّة تزيد المسلم حبّا لنبيّه صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، وحبّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والشّوق إلى العيش معه وتقديمه على كلّ شيء من أصول الإيمان، ففي الصّحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضيَ اللهُ عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ )).
والمتمعّن في سيـرته وشمائله، ليخرج منها بأكبر نصيب من هذا الحبّ تجاه نبيّه صلّى الله عليه وسلّم.
( نسينا في ودادك كلّ غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نُلام على محبّتكم ويكفي لنا شرف نلام ومـا علينا
ما لقيناكم، ولكنّ حبّا يذكرّنا بكم فكيف إن التقينا
تسلّى النّاس بالدّنيا وإنّا لعمر الله بعدكم مـا سلينا )
الوجه الثّالث: من ثمرات هذا الحبّ ودلائله هو الاتّباع والتّأسّي، وهذا ما بلغه الأوّلون، حتّى نالوا شهادة لا تزال تتلى على مرّ السّنين:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
فكانوا -وإن مشوا على الأرض- على اتّصال دام بالله والملأ الأعلى، فهذا يهتزّ عرش الرّحمن من أجله، وآخر تشيّع الملائكة جنازته، وثالث تغسله الملائكة، ورابع تسمع ترنّمه بالتّلاوة، وخامس يقرئه ربّه السّلام، وسادس يسلّم عليه الملك، وجيش يقاتل معه مدد من السّماء الثّالثة..
ولقد جُبِلت النّفوس على حبّ الاقتداء، والزجاجة إن لم تملأها بالماء ملئت بالهواء، لذلك كانت شمائل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تجعل المؤمن لا يرغب إلاّ في اتّباع منهجه في الحياة، مصداقا وامتثالا لأمر الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.
فلمّا أراد الله ذلك، هيّأه لذلك، فكان كاملا كمال الشّريعة، فيجد فيه الحاكم قدوته في سياسة دولته، والأب يجد فيه قدوته في تربية أولاده، والزّوج تعامله مع زوجته، والمعلّم براعة الطريقة في تعليمه، والتّلميذ حسن تأدّبه مع شيخه، والزّاهد يجد صدق زهده، والتّاجر صدق تعامله، والعامل أمانة عمله، والغنيّ قمّة في شكر ربّه، والفقير غاية في صبره، واليتيم صورة لتوكّله على ربّه، والدّاعي نبراسا لدعوته .. فنبيّ مثل نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم جدير على كلّ مسلم أن لا تلفظ أنفاسه ولا تكون حركاته إلاّ بهديه.
الوجه الرّابع: تثبيت المؤمنين وردّ شبه المعاندين.
أمّا الأمر الأوّل: وهو تثبيت المؤمنين:
فإنّ تلك الشّمائل وتلك الصّفات والنّعوت بمثابة أشعّة الشّمس الّتي تنير دروب الصّالحين، وتضيء سبيل المتّقين ..
فأيّ عبارة تحيط ببعض نواحي ذلك الكمال ؟! وأيّ كلمة تتّسع لأقطار ذلك الجلال ؟ عظمة شملت كلّ قطر، وأحاطت بكلّ عصر، وكُتب لها الخلود أبد الدّهر ؟!.
رأيناه في التّواضع كان سيّد المتواضعين..
رأيناه في الجود كان في قمّة الباذلين:
تعوّد بسط الكفّ حتّى لو أنّه ثنـاها لقبض لم تـجبه أنامـله
تـراه إذا ما جئـته متهلّـلا كأنّك تعطيه الذي أنت سائـله
هو البحر من أيّ النّواحي أتيته فلُجّته المعروف والجود ساحـله
ولو لم يكن في كفّه غير روحه لجـاد بـها فليتّـق الله سـائله
رأيناه في معاملته ودعوته أرحب النّاس صدرًا، وأوسعهم صبرا، لا يزيده جهل الجاهلين إلاّ حلما، ولا كيد الكائدين إلاّ كرما، ينادي أسراه في كرم وإباء: " اذهبوا فأنتم الطلقاء ".
رأيناه يُخالط المسكين والفقير، وأرحم النّاس بالصبيّ والعجوز وذي الشّيبة الكبير ..
رأيناه أرفق الخلق بالخلق، وأشدّهم ثباتا على الحقّ، لا يغضب لنفسه، فإذا انتُهِكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، وكأنّما يُفقأ في وجهه حبّ الرّمان من شدّة الغضب.
رأيناه أشجع الناس قلبًا وأقواهم إرادةً، يتلقّى النّاس بثبات وصبر، يخوض الغمار ويُنادي بأعلى صوته:
أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطلب
رأيناه أعفّ النّاس لسانًا، وأوضحهم بيانًا..
رأيناه أعدل النّاس في الحكومة، وأعظمهم إنصافًا في الخصومة..
رأيناه أسمى الخليقة روحًا، وأعلاها نفسًا، وأزكاها وأعرفها بالله ..
رأيناه يدلّ النّاس على الجادّة، وأزهد النّاس في المادّة، وأبعدهم عن التعلق بعرض هذه الدنيا، يأكل ما يقدم إليه فلا يرد موجوداً ولا يتكلف مفقودا، ينام على الحصير والجلد المحشوّ باللّيف. سمعنا عمر رضيَ اللهُ عنه يقول له متحسِّراً مشفقا حين رآه مُضْطَجِعاً عَلَى حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِهِ وهو مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ: ادْعُ اللهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ ! فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللهَ ؟!- فَقَالَ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ: (( أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ !؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))..
ويقول ابن مسعودٍ رَضِي اللهُ عنه: نَامَ رَسُولُ اللَّهِ رضيَ اللهُ عنه عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ، وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ ! لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً ؟ فَقَالَ: (( مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا ؟! مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ))..
- وكان يأكل على الأرض ويقول: (( آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ العَبْدُ )).
ويقول: (( إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ: تَوَاضَعُوا !)).
- وكان إذا مشى مشى أصحابُه أمامه وتركوا ظهره للملائكة.
- وما مسّت يده امرأة لا تحلّ له قط.
- ( لَمْ يَكُنْ فَاحِشاً وَلاَ لَعَّاناً وَلاَ سَبَّاباً، وَيَقُولُ عِنْدَ المَعْتَبَةِ: (( مَا لَهُ تَرِبَتْ يَمِينُهُ ؟!)).
- ويقول عَمْرُو بْنُ العَاصِ رضيَ اللهُ عنه بعد إسلامه: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُقبِل علَيَّ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ إِلَيَّ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنِّي خَيْرُ القَوْمِ [البخاري].
- وتقول عَائِشَةَ-كما في صحيح مسلم-: " مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ".
- وتقول-كما في البخاري-: كَانَ صلّى الله عليه وسلّم يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ.
- وكان يكره أن يقوم له أحدٌ.
- ويقول: (( لاَ تَطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ عليه السّلام، وَلَكِنْ قُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ )).
- ( كَانَ يَتَفَاءَلُ وَلاَ يَتَطَيَّرُ وَيُعْجِبُهُ الفَأْلُ الحَسَنُ ). [رواه أحمد].
- ( وَكَانَ يَزُورُ الأَنْصَارَ وَيُسَلِّمُ عَلَى صِبْيَانِهِمْ وَيَمْسَحُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ ). [النّسائي].
- ( وَكَانَ لاَ يُسْأَلُ شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَاهُ، وَإِلاَّ سَكَتَ ) [رواه الحاكم].
- وكان يقول في السّراّء: الحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصّالحات، وفي الضرّاء: الحمد لله على كلّ حال.
- وكان يمازح أصحابه يتألّف بذلك قلوبهم، حتّى سألوه متعجّبين من ذلك..
فقد روى التّرمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضيَ اللهُ عنه قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا ؟! قَالَ: (( إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا )).
وروى أبو داود والتّرمذي عَنْ أَنَسٍ رضيَ اللهُ عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! احْمِلْنِي ! قَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ: (( إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ )) قَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ: (( وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إِلَّا النُّوقُ )).
وروى التّرمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضيَ اللهُ عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ لَهُ: (( يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ )) قَالَ أَبُو أُسَامَةَ يَعْنِي مَازَحَهُ.
وروى أحمد والتّرمذي في " الشّمائل " عَنْ أَنَسٍ رضيَ اللهُ عنه أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ: (( إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ )) وَكَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يُحِبُّهُ وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَرْسِلْنِي ! مَنْ هَذَا ؟ فَالْتَفَتَ، فَعَرَفَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ ؟ )) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ: (( لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ أَوْ قَالَ:- لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ )).
وروى التّرمذي في " الشّمائل " بسند حسن عَنِ الحَسَنِ رضيَ اللهُ عنه قَالَ: " أَتَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ! اُدْعُ اللهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الجَنَّةَ. فَقَالَ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ: (( يَا أُمَّ فُلاَنٍ ! إِنَّ الجَنَّةَ لاَ تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ )). قَالَ: فَوَلَّتْ تَبْكِي. فَقَالَ: (( أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لاَ تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ:{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا . عُرُباً أَتْرَاباً}..
- ومن أحسن ما قيل في وصفه صلّى الله عليه وسلّم ما قاله أحمد شوقي:
يا من له الأخلاق ما تهوى العـلا ** منها، وما يتعشّـق الكبـراء
لو لم تُقم ديناً لقـامـت وحدها ** ديناً يضـيء بنـوره الآنـاء
زانتك في الخلق العظيم شـمـائل ** يُغرى بهنّ ويُـولـع الكرماء
وإذا سخوت بلغـت بالجود المدى ** وفعلت ما لا تفعـل (الكرماء)
وإذا عفوت، فقـادراً ومـقـدَّراً ** لا يستهين بعفـوك الجهـلاء
فإذا رحـمـت فأنـت أمّ أو أب ** هذان في الدّنيا هُما: الرّحمـاء
وإذا غضبت، فإنّما هـي غضبـة ** في الحقّ لا ضغن ولا بغضـاء
وإذا رضيت، فذاك في مرضـاتـه ** ورضـا الكثير تحلّـم وريـاء
وإذا خطبـت فللمنـابـر هِـزَّة ** تعرو الندى وللقلوب بكــاء
وإذا قضيت فلا ارتيـاب كأنّـما ** جاء الخصوم من السماء قضـاء
وإذا أخـذت العهـد أو أعطـيته ** فجميع عهـدك ذمّـة ووفـاء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنـى ** فالكلّ في حـقّ الحيـاة سـواء
ظلـمـوا شريعتك الّتي نلنا بهـا ** ما لـم ينل في رومة: الفقـهاء
صلّى عليك الله ما صحِب الدُّجى ** حَـادٍ، وحنَّتْ بالفـلا وجناء[1]
- ذلك قبس من نور النبوة الباهر، وشعاع من مشكاة الخلق المحمّدي الطّاهر، وسل التّاريخ الّذي يتجدّد: هل رأيت أعظم من النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟
سألت نِياق الحيّ عن أكـرم الورى ؟ قالت: نبـيّ بين البرايـا معـظّـما
فقلت لها يا نوق هل تعرفين مقـام محمّـد ؟ قالت بطيبـة مقـاما مسلّـما
فقلت لها يا نوق هل نبع الزّلال من كفّه ؟ قالت: وقد أروى الجيوش من الظّما
فقلت لـها يا نـوق هـذا محمّـد ! قالت: وقـد صـلّى عليه الله وسلّـما
وأمّا الأمر الثّاني: فإنّ معرفة هذه الشّمائل جعلت أقطاب النّصرانيّة المنصفين قد خرّوا لله ساجدين، وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالفضل معترِفِين، نشر أقوال الغربيّين الّذين تعترف لهم دور الفكر الغربيّة، والمؤسّسات العلميّة والاجتماعيّة بعلوّ الكعب في أبحاثهم، وتشهد بسعة اطّلاعهم، من باب قول الله تعالى:{وشهد شاهد من أهلها} .. وقول الشّاعر:
ومليحةٍ شهِدت لها ضرائرها والفضل ما شهدت به الأعداء
وإليك شيئا:
من أقوال الغربيين في النبيّ محمّد صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ:
إنّ المنصفين من المشاهير المعاصرين عندما اطلعوا على سيرة رسول الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم لم يملكوا إلاّ الاعتراف له بالفضل والنّبل والسّيادة، وهذا طرفٌ من أقوال بعضهم:
- يقول مايكل هارت في كتابه " الخالدون مئة " ص 13، وقد جعل على رأس المئة سيّدَنا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم إذ يقول: " لقد اخترت محمّدا صلّى الله عليه وسلّم في أوّل هذه القائمة ... لأنّ محمّدا عليه السّلام هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحا مطلقا على المستوى الديني والدنيويّ، وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات وأصبح قائدا سياسيا وعسكريا ودينيا، وبعد 13 قرناً من وفاته، فإنّ أثر محمّد عليه السلام ما يزال قويا متجددا ".
- برناردشو الإنكليزي: له مؤلَّف أسماه ( محمّد )، وقد أحرقته السّلطات البريطانية، يقول:
" إنّ العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد، وإنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرّجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصّلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحيّة، بل يجب أنْ يسمّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوفّق في حلّ مشكلاتنا بما يُؤَمِّن السّلام والسعادة الّتي يرنو البشر إليها ".
- ويقول آن بيزيت:
" من المستحيل لأي شخص يدرس حياة وشخصية نبيّ العرب العظيم ويعرف كيف عاش هذا النبيّ وكيف علّم الناس، إلاّ أن يشعر بتبجيل هذا النبيّ الجليل، أحد رسل الله العظماء ".
- الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل الحائز على جائزة نوبل يقول في كتابه " الأبطال ":
" لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أنّ دين الإسلام كذب، وأن محمداً خدّاع مزوِّر. وقد رأيناه طول حياته راسخ المبدأ، صادق العزم، كريماً بَرًّا، رؤوفاً، تقياً، فاضلاً، حرًّا، رجلاً، شديد الجدّ، مخلصاً، وهو مع ذلك سهل الجانب، ليِّن العريكة، جمّ البِشْر والطّلاقة، حميد العشرة، حلو الإيناس، بل ربّما مازح وداعب.
كان عادلاً، صادق النيّة، ذكيّ اللّب، شهم الفؤاد، ذكياًّ، سريع الخاطر، كأنّما بين جنبيه مصابيح كل ليل بهيم، ممتلئاً نوراً، رجلاً عظيماً بفطرته، لم تثقفه مدرسة، ولا هذّبه معلّم، وهو غنيّ عن ذلك ".
- ويقول جـوتـه الأديب الألمانيّ:
" إنّنا أهل أوربا بجميع مفاهيمنا، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمّد، وسوف لا يتقدّم عليه أحد، ولقد بحثت في التّاريخ عن مَثَلٍ أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبيّ محمّد ".
- د: نظمي لوقا ..
الدكتور نظمي لوقا من أقباط مصر .. له كتابان في سيرة النبيّ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، ( محمّد الرّسالة والرّسول ) و( محمّد في حياته الخاصّة )، يقول في كتابه: " محمّد الرّسالة والرّسول ":
- ص 28: " ما كان محمّد صلّى الله عليه وسلّم كآحاد الناس في خلاله ومزاياه، وهو الذي اجتمعت له آلاء الرّسل -عليهم السلام- وهِمّة البطل فكان حقاً على المنصف أن يكرم فيه المثل ويُحيّي فيه الرجل ".
- ص 88: " لقد تخطّف الموت فلذات أكباد الرسول - صلى الله عليه وسلم- ليكون ذلك إيذاناً بأن البشر الرسول ليس له امتياز على سائر بني آدم، فتسقط دعوى الناس في التقصير عن الاهتداء به ".
- ص 170 ـ 171: " إن هذا الرسول، حينما وقعت له تجربة الوحي أول مرة، وهو يتحنّث في غار حراء، صائماً قائماً، يقلّب طرفه بين الأرض والسماء .. لم يأخذ هذه التجربة مأخذ اليقين، ولم يخرج إلى زوجه خروج الواثق بها، المتلهّف على شرفها. بل ارتعدت فرائصه من الروع، وقد ثقلت على وجدانه تلك التجربة الفذّة الخارقة .. ودخل على زوجه، وكأن به رجفة الحمى.. ".
- ص 188 ـ 189: " إن لُباب المسألة كلّها أنك كنت يا أبا القاسم أكبر من سلطانك الكبير يندهش رجل بين يديك ويرتعش فتقول: هوّن عليك، لست بملك ! إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة .. إن مجد هذه الكلمة وحدها يَرْجَحُ في نظري فتوح الغزاة كافّة وأبّهة القياصرة أجمعين. أنت بأجمعك في هذه الكلمة، وما أضخمها أيها الصادق الأمين! ".
- ويقول في كتابه الآخر: " محمّد في حياته الخاصّة " ص 14: " أيّ النّاس أولى بنفي الكيد عن سيرته من أبي القاسم، الذي حوّل الملايين من عبادة الأصنام الموبقة إلى عبادة الله رب العالمين، ومن الضياع والانحلال إلى السموّ والإيمان. ولم يفد من جهاده لشخصه شيئاً مما يقتتل عليه طلاب الدنيا من زخارف الحطام ".
- في آخر خطبة له، وقد تحامل على نفسه وبرز إلى المسجد، قال : ( أيها الناس، ألا من كنت جلدت له ظهراً فها ظهري فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه. إلا وإن أحبّكم إليّ من أخذ مني حقاً إن كان له، أو حلّلني فلقيت ربي وأنا طيّب النفس ) .. ما أعظم وأروع ! فما من مرة تلوت تلك الكلمات، أو تذكرتها، إلاّ سرت في جسمي قشعريرة. كأني أنظر من وهدة في الأرض إلى قمة شاهقة تنخلع الرقاب دون ذراها. أَبَعْدَ كلّ ما قدّمت يا أبا القاسم لقومك من الهداية والبّر والرحمة والفضل؛ إذ أخرجتهم من الظلمات إلى النور .. تراك بحاجة إلى هذه المقاصّة كي تلقى ربك طيب النفس، وقد غفر لك من قبل ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ ولكنّ العدل عندك بدأ .. العدل عندك خلق وليس وسيلة..".
- بماذا يقاس الإيمان، إن لم يكن مقياسه الثبات عليه في أشد الظروف حلكة، وأدعاها للنّاس ؟ وان لم يكن مقياسه أصبر في سبيله على المكاره ؟ وإنّها لمكاره من كلّ نوع. لعلّ المعنوي منها أقسى من المادّي .. لم يساوم هذا الرسول ولم يقبل المساومة لحظة واحدة في موضوع رسالته، على كثرة المساومات واشتداد المحن.. فحيثما تعرض الأمر لدعوته وعقيدته فلا محل لمجاملة مهما قويت بواعثها. أهذا شأن من يملك من الأمر شيئاً ؟ أهذا شأن من لا تسيطر عليه قوة قاهرة أقوى من مراده وهوى نفسه ؟ لقد ضُرِب وأُهِين في كلّ مكان فلم يعْنِه من ذلك شيء سوى خوفِه أن يكون بالله عليه غضب فإن لم يكن ربّه غاضباً عليه فلا يبالي. وقريش تمنّيه بانقلاب الحال إلى ملك مؤهل وثراء مذلل فلا يفكر بشيء من ذلك طرفة عين، ويعرض عنه بغير مبالاة.. ".
- نصري سلهب يقول في كتابه: " في خطا محمّد ":
ص 42: " في مكّة .. أبصر النّورَ طفل لم يمرّ ببال أمّه ساعة ولادته، أنه سيكون أحد أعظم الرجال في العالم، بل في التاريخ، ولربما أعظمهم إطلاقاً ".
- " غدا اسم محمّد صلّى الله عليه وسلّم أشهر الأسماء طُرًّا، وأكثرها ترداداً على الشفاه وفي أعماق القلوب. وحسبه شهرة وترداداً أن ملايين المؤمنين في العالم يؤدون، كل يوم أكثر من مرة، شهادة مقرونة باسم الله وباسمه ".
- من يُنعِم التفكير في سيرة هذا الرّجل صلّى الله عليه وسلّم يرَ نفسه منساقاً إلى الإقرار بأن ما حققه وقام به يكاد يكون من دنيا غير التي يعرفها البشر ".
- " هنا عظمة محمّد صلّى الله عليه وسلّم..لقد استطاع خلال تلك الحِقْبَة القصيرة من الزمن، أن يحدث ثورة خلقية وروحية واجتماعية، لم يستطعها أحد في التاريخ بمثل تلك السرعة المذهلة ".
- " لا ليس بين الرسل واحد كمحمّد صلّى الله عليه وسلّم عاش رسالته عميقاً وصُعِداً، ذائب الكيان، عاصف البيان، شديد الإيمان ".
- " لكأنّي بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم آلى على نفسه أن يترك للمؤمنين ثروة روحية وأخلاقية، ينفقون منها فلا تنضب ولا تشح؛ لأنها بحجم روحه، وهل روح النبيّ تنضب أو تشحّ ؟".
- " إنّ محمّداً صلّى الله عليه وسلّم كان أمّياً لا يقرأ ولا يكتب، فإذا بهذا الأميّ يهدي الإنسانية أبلغ أثر مكتوب حلمت به الإنسانية، منذ كانت الإنسانية، ذاك كان الكتاب الذي أنزله الله على رسوله ".
- " ليس في القرآن كلّه ذكر لمعجزة أو لأعجوبة صنعها النبيّ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، فحسبه أنّ المعجزة الكبرى كانت بوساطته. حسبه أن الله اختاره من دون لبشر لينزل عليهم تلك الثروة التي لم يروِ التاريخ أن ثروة بحجمها جاءت على لسان رجل واحد. حسبه أن يكون قد نثر تلك الثروة بحرفيتها على الناس، فأفادوا منها جميعهم. وستظل مدى الدهر ينبوعاً يرِدُه العِطاش إلى الحقيقة والجِياع إلى ملكوت الله ".
- " إنّ أولى الآيات البيّنات كانت تلك الدعوة الرائعة إلى المعرفة، إلى العلم عبر القراءة..{اقرأ}.. وقول الله هذا لم يكن لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم فحسب، بل لجميع الناس، ليوضّح منذ الخطوة الأولى، بل منذ الكلمة الأولى، أن الإسلام جاء يمحو الجهل، وينشر العلم والمعرفة ".
- " ذلك العظيم الذي كان يحاول تغيير التاريخ، ويعدّ شعباً لفتح الدنيا من أجل الله.. ذلك الأمي اليتيم الفقير الذي خاطب الأباطرة والملوك والأمراء من ندّ إلى ندّ، بل كان له عليهم سلطان.. ذلك الملهم الذي كان همّه أن يعيد الصلة بين الأرض والسماء. ذلك الرجل وجد الوقت الكافي ليلقي على الناس دروساً في آداب المجتمع، وفي أصول المجالسة وكيفية إلقاء السلام ! ".
- هذا الرجل الذي ما عرف الهدوء ولا الراحة ولا الاستقرار، استطاع، وسط ذلك الخضّم الهائج، أن يرسي قواعد دولة، وأن يشرّع قوانين، ويسن أنظمة، ويجود بالتفاسير والاجتهادات، ولم ينسّ أنه أب وجدٌّ لأولاد وأحفاد فلم يحرمهم عطفه وحنانه. فكان بشخصيّته الفذّة، الغنيّة بالقيم والمعطيات والمؤهّلات، المتعددة الأبعاد والجوانب الفريدة بما أسبغ الله عليها من نعم وصفات، وبما حباها من إمكانات، كان بذلك كله عالماً قائماً بنفسه ".
- " لم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رسولاً وحسب، يهدي الناس إلى الإيمان، إنما كان زعيماً وقائد شعب، فعزم على أن يجعل من ذلك الشعب خير أمة أخرجت للنّاس، وكان له ما أراد ".
وفّقنا المولى تبارك وتعالى لحبّ نبيّه صلّى الله عليه وسلّم واتّباع سنّته وإحياء شريعته إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
---------------------------
[1] / هي النّاقة.